التراث هو الإرث الفكري والثقافي الذي وصل إلينا على مرِّ العصور وما زال داخل الحضارة السائدة، فهو موروث وفي نفس الوقت حاضر على عديد من المستويات، وقد وردت هذه الكلمة مرة واحدة فقط في القرآن الكريم بمعنى الميراث "وتأكلون التراث أكلاً لماً" [الفجر: 19]، ووردت في السنة بمعنى الميراث كما جاء في الدعاء "ولك ربي تراثي" [الترمذي: 87]، وفي كتاب الدعوات وفي الحديث الذي يفيد الثناء على المؤمن العابد قليل الحظ من الدنيا حيث ورد في آخره "وكان عيشه كفافاً فعجلت منيته، وقلت بواكيه، وقل تراثه"، قال الإمام أحمد: تراثه: ميراثه.
إذ معنى التراث في لغة العرب الميراث، وهو يشمل المال والأحساب، وقد ورد في القرآن ما يفيد الميراث الديني والثقافي في دعاء زكريا عليه السلام "يرثني ويرث من آل يعقوب" [مريم: 6].
فإنه بمعنى وراثة النبوة والعلم والفضيلة دون المال، فالمال لا قدر له عند الأنبياء حتى يتنافسون فيه. ومصداقاً لهذا القول ما ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذه بحظ وافر".
وكذلك في قوله تعالى: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا فمنهم ظالم ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير".( )
إذن فالتراث الإسلامي هو ما ورثناه عن آبائنا من عقيدة وثقافة وقيم وآداب وفنون وسائر المنجزات الأخرى المعنوية والمادية، ومن ثم فلم يقتصر التراث على المنجزات الثقافية والحضارية والمادية بل يشتمل على الوحي الإلهي (القرآن والسنة).
والميراث الفكري الذي توارثناه عن الأسلاف.( )
وأهم هذا الميراث أو هذا التراث هو التراث المخطوط الذي هو الأصل، وهو أصل المطبوع لذلك فالمخطوط كتاب، والكتب لا توجد في أمة من الأمم إلا إذا تحققت عناصر ثلاثة: مواد يكتب بها، وأناس يعرفون الكتابة، وتراث فكري يحرص الناس على تدوينه وتداوله".( )
لهذا فإن وراء الكتابة والعلم حضارة ترعى هذه العناصر وتعيرها اهتمامها، ومن هنا نشأت حركة الكتابة والكتب طوال التاريخ.
فالمخطوط: هو كتاب أعد وكتب بخط اليد، أو ضرب على الآلة الكاتبة أو نقش على ألواح من الطين أو الحجارة، والتي هي في هذا الشكل لم تنسخ في نسخ متعددة والمخطوط هو نسخة المؤلف التي كتبها باليد قبل طبعها، أو هي النسخة التي ضربها على الآلة الكاتبة.
والكتاب المخطوط هو الكتاب المكتوب بخط اليد لتميزه عن الخطاب أو الورقة أو أي وثيقة أخرى كتبت بخط اليد خاصة تلك التي كتبت قبل عصر الطباعة.
والفهرس المخطوط هو الفهرس المكتوب بخط اليد لتميزه عن الخطاب.
والمخطوط العربي هو الكتاب المخطوط بخط عربي سواء، أكان في شكل لفائف أو في شكل صحف ضم بعضها إلى بعض على هيئة دفاتر أو كراريس.
المخطوطات العربية وتاريخ الكتابة عند العرب:
لقد لازمت الكتابة الإنسان منذ وجوده ليعبر أفكاره، ومعتقداته، فقد دون الإنسان أفكاره فوق جدران الكهوف التي عاش فيها، وكتب على ألواح الطين، ففي بلاد الرافدين مثلاً استخدم السومريون ألواح الطين منذ خمسة آلاف عام، والكتابة السومرية هي أشهر وأقدم كتابة مدونة، فقد اخترع السومريون كتابتهم المسمارية هذه قبل أن يبدأ المصريون استخدام العلامات الصوتية في كتاباتهم بعدة قرون، كما يعد السومريون أول من جمع سجلات من الرقم الطينية وحفظها فقد تأكد مؤخراً أن المصريين استعاروا الكتابة من وادي الرافدين، وقد عثر علماء الآثار في مدينة (ينبور) جنوب العراق على مجموعات ضخمة من هذه الأرقام تمثل مكتبة المدينة ودار وثائقه، يعود تاريخها إلى 1400 سنة قبل الميلاد، وكتب المصريون على أوراق البردي باللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) واستخدمت جلود الحيوانات كصحائف للكتابة من أقدم العصور عند بعض الأمم كالمصريين القدماء والأشوريين والفرس وغيرهم، ولم يكن هذا الاستخدام مجهولاً عند الإغريق الذين أطلقوا اسم (DIPHERI) وهي كلمة دفتر بالفارسية وعن الفرس أخذها العرب.
أثر اكتشاف الورق:
كان لاكتشاف الورق ولمعرفة سر صناعته أثر بالغ في الثقافة العالمية ونشر المعرفة بل بداية تغيير ثوري في حياة الإنسانية.
نقل العرب عن الصينيين بعد احتلالهم ما يعرف اليوم بتركستان، إثر انتصارهم على الصينيين في شهر تموز عام 712م، وأسرهم عدداً كبيراً منهم كان من بينهم صناع الورق، وكان الصينيون قد احتفظوا بسر صناعة الورق لأنفسهم حتى ذلك التاريخ، وقد وجد العرب بمدينة سمرقند التي احتلوها في ذلك العام مصنعاً للورق، أبقوا عليه وأقاموا إلى جانبه مصنعاً آخر يساعد أهل المدينة عام 751م. وأرسلت إليه الدولة عدداً من الأسرى الصينيين لرفع كفايته الإنتاجية.
وهكذا نرى أن اكتشاف الورق كان له دور كبير في تقدم الأمم وحضارتها ورقيها العلمي والعمراني.
ونتيجة لحركة التأليف والترجمة التي ظهرت في أوائل العصر العباسي على أيدي العناصر الفارسية التي أثرت الأدب العربي والعناصر السريانية التي نقلت إلى العرب تراث اليونان والرومان وحضارة العالم القديم وما تبع ذلك كله من كثرة المؤلفات، وحرص الناس على تناقلها في بغداد، وسهولة الحصول عليها وتداولها، وظهرت صناعة الوراقة التي تفرغ لها قوم عرفوا في كتب التراث العربي باسم الوراقين، وكان يمارسها إلى جانب هؤلاء المحترفين عدد كبير من العلماء والأدباء والمحدثين والمفسرين واللغويين والنحاة.
وقد ظلت الأمة الإسلامية تكتب وتؤلف حتى تكون لدينا كمٌ هائل من الكتب، وكلنا يعرف ماذا صنع المغول حينما ألقوا الكتب في نهر دجلة، فقد تغير لون المياه . وتراثنا الآن للأسف مبعثر في مكتبات العالم بل قل في شتى بقاع الأرض.
فتراثنا العربي لا نستطيع أن نقول أننا نحوز على 10% منه، بل إن المخطوط المتبقي منه أكثر من المطبوع، وعدد المخطوطات الذي يتجاوز الخمسة ملايين أو يزيد لدليل حي وشاهد خالد رغم تحريق التتار لمكتبات بغداد وما حل بالمكتبات العربية بعد سقوط الأندلس إلى غير ذلك من ثورات وحروب محلية في العراق ومصر وبلاد الشام والجزيرة العربية الشمال الإفريقي العربي على الكثير، على أن الأمة العربية تملك من التراث الثقافي والفكري في شتى المعارف الحضارية والإنسانية ما لا تملكه أمة أو شعب من الأمم الأخرى، عبر تاريخ الحضارات الإنسانية المعروفة، وما بقي على الأمة إلا أن تحيي تراثها، وتراث الأمة هو هويتها، وفيه يكمن ضميرها ومعاني أصالتها ولا تستطيع أن أمة أن تسير إلى الأمام بقدم راسخة وثابتة وشجاعة إلا إذا دعمت جذورها في تراثها، وربطت خيوط حاضرها ومستقبلها بما يماثلها ويشابهها في صفحات ماضيها القريب والبعيد.( )
"والتراث الحضاري لأي أمة في العالم يعد الأساس الذي تبنى عليه مكانتها، وتحدد به هويتها ومسيرتها، كما يعرف من خلاله مدى عراقتها في التاريخ، ونوعية إسهامات رجالها في حركته، ومدى تأثيرها فيه وتأثرها به، وإن تراثنا الذي أورثنا عزاً تليداً، ومجداً فريداً، وحضارة تياهة تزدهي عجباً بنوابغ من العقول، عجز الزمان أن ينجب أمثالها، وإبداعات أعيت الحذاق أن يدركوا نظيراً لها، فهو اليوم سجين يشكو نكران أهله، وعقوق أبنائه، وجهل سجّانه.
ولئن تأثر التراث بوجه عام بهذا الصنيع، فإن التراث المدون المخطوط كان أكثر تأثراً، لأنه ذاكرة الأمة، ودليل هويتها، وعصارة فكرها، وخلاصة تجاربها، وجماع أعمالها وإبداعاتها، ومن هنا كان التربص به شديداً من قبل أعداء الثقافة العربية والإسلامية، فعملوا على تغييبه عن الأمة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً بإحكام حلقة الجفاء بينه وبين أمته، وسلوك أسلوب التجهيل الممنهج لأبنائه والتشويه المتعمد لمخطوطه، وذلك بقذفه بالعقم تارة، وبتجاوز الزمن له، تارة أخرى، أو بتحريض القائمين على خزان المخطوطات في المكتبات العامة على منعها عن الباحثين والطالبين لها، أو بدفع جحافل من المحققين الجهلة إلى اقتحام ميدان التحقيق، مما أفضى إلى مسخ مادتها وحجبها عن الناس رغم توافرها بتشويهها لتأنف النفوس السليمة مخالطتها. ( )
ويجب أن نقطع صلتنا بالماضي، حيث أن الحضارة التي سادت قروناً، وبقيت المنهل الصافي للعالم المتحضر عدة قرون، هذا التراث الذي عبثت فيه الأيدي عدا عن الحشرات والرطوبة والأرضة، مثلما عبثت به يد التتار من قبل على يد هولاكو ومن جاءوا بعده.
جاء في كتيب (تعريف) الذي تنشره جمعية إحياء التراث الإسلامي في الكويت، عدد رجب 1407هـ، مارس 1987م، ما نصه: أما التراث عندنا فهو الكتب الخطية وما فيها من قديم أصيل نافع في كل أبواب المعرفة، وهي بضعة ملايين مخطوطة في العالم، حددها بعض الباحثين بثلاثة ملايين، وقال أن المعروف منها حوالي مليون ونصف تشمل على خمسين أو ستين ألف كتاب نشر منها (1%) واحد بالمائة فقط، من عصر الطباعة حتى اليوم وما طبع في الغرب والشرق.( )
مصير التراث:
يصور لنا الأستاذ السامرائي مصير هذا التراث الزاخر والحالة التي يعيشها بكلمات بسيطة ولكنها عميقة في معناها ومبناها ويشخص لنا ما حصل لهذا التراث من إساءة في فهمه وفي حفظه وفي نشره فيقول: "أبدأ بمن لم يعن بتراثه ففرط به وفيه، وأضاعه إما جهلاً به أو نتيجة حاجة اضطر معها إلى فراقه، .. أم أعرج على أولئك الذين عهد بحفظه والقيام عليه فبخلوا به على الدارسين، فأكلته الأرضة وعاث فيه الفأر، أم أشكو دور الكتب والمكتبات التي عضت على ما لديها من التراث بالنواجذ، فلم تسمح بتصوير مخطوطة في عهدتها إلا بالواسطات والبراطيل، أم أشكو الجيش العرمرم من المحققين الجهال الذين نسخوا التراث فمسخوه، أو سرقوا تحقيقات الجهابذة الأول فأخرجوها باسمهم متعاونين مع بعض وكلاء الوراقين.
أم أشكو أولئك الذين يدسون أنوفهم في فهرسة المخطوطات، هم لم يروا مخطوطة أو يقلبوها في حياتهم، فيسرقون جهود الجاهدين وثمرة العارفين.
أم أشكو المحققين النقاد الذين أخرجوا كتباً ضخمة في أجزاء عديدة بلا فهارس شاملة كاشفة لما فيها، فأعيوا المحقق وأبلوا وقته وجهده.
أم أصرخ بالمبهورين من أبناء جلدتي، وأقول لهم أيها العرب الكرام .. أيها الأخوة هذا ما يعانيه المحقق والمفهرس لهذا التراث المهان من أهله، فقد لعب الجهل المرير به (التراث) وبتاريخ هذه الأمة على التفريط به، فامتلأت دور الكتب الأجنبية به فكان، والله غريب الوجه واليد واللسان، ومع كل هذا فإن في النفس أملاً عميقاً في أن يدرك العرب والمسلمون ما يخبئه لهم هذا التراث من حاضر زاهٍ ومستقبل زاهر، إذ عكفوا على دراسته ونشره وإذاعته، فلعل من أتاه الله فضلاً من مال وسعة في ملك، وغيرة في دين أن يقوم ما قام به أولئك الذين وضعوا هذا التراث نصب أعينهم، هؤلاء الذين كان عملهم هواية طاغية وحب أكيد قبل أن يكون مهنة، لأن التعامل مع المخطوطات يتطلب صفات وقابليات وميولاً من المفهرس والمحقق تعينه على عمله، والسبب يكمن في أن المخطوطة نفسها عالم بذاته متميز عن غيره، والسبب يكمن في أن المخطوطة نفسها عالم بذاته متميز من غيره منفرد بدقائقه وتفصيلاته ولا يستطيع أن يلج هذا العالم ويكشف خباياه إلا من أوتي صبراً عميقاً وجلداً وثيقاً ورغبة طاغية وجب استطلاع، دافعاً لاستكشاف المجهول في كل ثنية ورقة غائرة، أو جرة قلم عابرة، أو تاريخ مزور أو عنوان مزيف، أو تشويه ناسخ، أو تعليق قارئ.
ومن هنا نخلص إلى أن العمل في المخطوطات ليس أمراً هيناً وعملاً يسيراً، بل إنه فن وصنعة قوامها الهوية، وسداها الخبرة، ولحمتها الدراية الطويلة والمران المستمر، والدراسة العميقة إلى جانب ذوق جمالي وصناعي وفكري في المخطوطة إضافة إلى الإلمام بكل جانب من جوانب الحضارة الإسلامية. ( )
ولذلك فإن الأمم المتحضرة تضع تراثها الفكري العلمي في حبات العيون تنسقه وتصدر منه طبعات أنيقة تتداول بالملايين، تماماً كما تصون تاريخها وتراثها وآثارها ومخلفات عظمائها، ولذلك فهي تتجدد، وتنجب العباقرة والعظماء، وإنه حق على أبناء فلسطين وواجب في مرحلة الشقاء التي يتجاوزونها في وطنهم وخارجه أن يصونوا ما بقي من تراثهم وأن يحفظوه حفظ الأم لوليدها، وألا يكلوا في ذلك أبداً، فلابد لأبنائها الذين سيبعثونها أن يعرفوها أولاً وأن يعرفوا تراثها وتاريخها، وما كانت عليه، ثم يبنوا مستقبلها على ماضيها، وبذلك يبني الخلف على تراث السلف، ويطوره وتستقيم الأمور، والعمل في هذا المضمار واسع رحيب، وعلى المثقفين والهيئات العلمية أن يعملوا كثيراً فالمسألة مسألة جد صارم لا هوادة فيه.( )
لأن التراث من أهم عوامل بعث الأمم والشعوب فلا يمكن لأمة من الأمم أن تتنسم ذرى الحضارة والمدنية إلا إذا كانت لها جذورها العميقة، وتراثها المجيد، وتاريخها التليد.
فعن طريق التراث نستطيع أن نكتشف القيم القادرة على توجيه السلوك وتنظيم العمل، لأن التراث هو الهوية الثقافية للأمة، والتي من دونها تضمحل وتتفكك داخلياً، حيث أن المسلمين يتعرضون لهذا التفكك ويندفعون بقوة نحو التيارات العلمانية، والتراث الإسلامي تعبير صادق عن أثر التوجيه الإسلامي الرئيس لنهضة الفكر والحضارة الإنسانية بصفة عامة، فضلاً عن دوره الكبير المؤثر في قيام الحضارات الحديثة.( )